الوسوم

رحم الله نجيب محفوظ، فلو كان يعرف ما ستلحقه به روايته "أولاد حارتنا"، لما أقدم على دفعها إلى الأستاذ هيكل بالأهرام لينشرها في حلقات مسلسلة عام 1959. الراوية التي نشرت معظم حلقاتها قبل أن ينتبه الناس إلى مضمونها، تعرض أو تعارض –بمصطلح الشعراء- قصة البشرية والأنبياء الذين نجح الروائي العالمي ببراعته المعروفة في حشدهم في الحارة على مراحل متعددة بدءاً بأدهم (آدم) الذي طرد مع إدريس (إبليس) من بيت الجبلاوي (الرب)، مروراً بجبل (موسى) ورفاعة (عيسى) وانتهاء بقاسم (محمد) الذي بقيت الحارة بعده لفترة طويلة بغير مصلح، حتى ظهر عرفة (العلم)، وأعاد ترتيب الأوراق، ثم وصل به الغرور إلى أن تسلل إلى بيت الجبلاوي المنيع عبر السنين، واستل سكيناً محاولاً قتله.

بعد ذلك بأكثر من أربعين عاماً، وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي ومن الحضارة، جسد الكاتب الشهير دان براون صاحب الرواية الأشهر "شفرة دافنشي " نفس الفكرة (فكرة الصراع بين الدين والعلم، وفكرة استخدام العنف أداة في هذا الصراع) في روايته الأولى "ملائكة وشياطين". ورغم أن هذه الأخيرة نشرت أولاً، ورغم أنها أكثر حبكة وإثارة من رواية الشفرة، إلا أنها لم تأخذ حظها إلا بعد عرض فيلم "شفرة دافنشي"، فباعت حتى الآن أكثر من عشرين مليون نسخة (رحمك الله يا عم نجيب)، وتتصدر الآن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً منذ شهور.

روايات دان براون الأربعيني العمر، والذي كان يعمل مدرساً للتاريخ قبل استقالته من التدريس وتفرغه للكتابة التي جنى ورائها الملايين، تدور كلها في إطار بوليسي مشوق، يمتليء بالإثارة والغموض وحل الألغاز وتعتمد على الاستخدام المفرط للتكنولوجيا، والمزج المذهل بين الحقيقة والخيال، والاستخدام الدرامي لمواقع حقيقية كالكاتدرائيات والكابيلات والشوارع، وأشخاص حقيقيين كالفنانين والأدباء والسياسيين، و أحداث وقيم ومعتقدات تاريخية – خاصة في معظمها بالثقافة المسيحية- بما يمنح أعماله – التي ربما احتوت صوراً وخرائط ونقوشاً أُثرية- تميزاً وقيمة ربما تتجاوز بكثير قيمتها الأدبية الحقيقية.

ولا يمكن بالتأكيد أن نختصر رواية ملائكة وشياطين في عدة أسطر وهي التي بلغت حوالي 600  صفحة في ترجمتها العربية، ودارت أحداثها جميعاً في يوم واحد (هو يوم انتخاب البابا الجديد)، وفي مدينة واحدة هي مدينة القاتيكان. غير أن محور القصة يدور حول صراع طرفه الأول هو "الطبقة المستنيرة"، وهي جماعة سرية قديمة ترتبط بوشائج بالماسونية العالمية، وطرفه الثاني هو الكنيسة الكاثوليكية. وتاريخ هذا الصراع يعود إلى القرن السادس عشر حيث رأى جاليليو وزملاؤه العلماء أن عقائد الكنيسة ومبادئها الخرافية هي عدو الإنسان الألد، وأن الدين إذا استمر في حثه الناس على الإيمان والخرافات، فإن مسيرة التطور العلمي ستتعثر، وسيقضي ذلك على مستقبل البشرية ويحوله إلى سلسلة من الحروب الدينية التافهة والسخيفة. تسلل أعضاء الطبقة المستنيرة مع الوقت إلى القطاع المصرفي والجامعات والصناعة، وعملوا على إنشاء نظام عالمي جديد (دولة عالمية موحدة) ترتكز على التنور العلمي. ولم تكن الكنيسة لتسكت على ذلك الاجتراء، فقررت أن تتعامل مع هذه الهرطقة بعنف، خاصة وقد بدأت أبحاث بعض العلماء تبشر بنظريات تخالف معتقدات كنسية متوارثة. كما أن تنامي دور العلم كان من شأنه – في ظنهم- أن يضعف إيمان الأتباع، وحاجتهم إلى الرب ومعجزاته. فضيقت عليهم الكنيسة، ولم تتوان في إصدار أوامر بقتل عدد منهم.

برزت من "الطبقة المستنيرة" أسماء لامعة (أدع القاريء الكريم لمعرفتها من خلال الكتاب)، وكان صراعهم مع الكنيسة دموياً في بعض الأحيان، فقد كانوا وراء عمليات تفجير في الكنائس، واغتيالات للقساوسة. وظل هذا الصراع محتدماً حتى الحرب العالمية الثانية، حيث اختفت أخبارهم تماماً، بعد ضربات موجعة من الكنيسة وتأكد لجميع الدارسين أنهم خسروا المعركة، وأنهم اندثروا. لكنهم عادوا ليبرزوا بقوة، ويجاهروا بعدائهم للكنيسة على طريقة "يا قاتل ما مقتول".

ترددت شائعات أن المركز الأوروبي للأبحاث النووية (سيرن) والواقع في سويسرا، يرتبط بهم بطريقة أو بأخرى. وإذا كان الفاتيكان هو رمز الدين المعاصر، فإن سيرن هو رمز التكنولوجيا المتقدمة. وكان أحد الباحثين النابغين في سيرن يجري في سرية تامة هو وابنته تجارب علمية غاية في التقدم، تخص موضوع نشأة الكون. وتمكن الرجل بعد تجارب مضنية من إنتاج ما أسماه "نقيض المادة" أو المادة المضادة" تقريباً من العدم. وكان الرجل – الكاثوليكي المتدين- يبحث عن الله بطريقته، وبمباركة من البابا شخصياً، حين تمكن من خلق قطرة من "المادة المضادة"، ولكنه قبل أيام من إعلان اكتشافه الذي سيغير تاريخ العلم، قتل في حادثة بشعة وفقئت عينه (حيث بها بصمة الدخول إلى معمله)، وسرقت المادة المضادة، وكانت هذه القطرة كافية لتدمير مدينة الفاتيكان خلال أربع وعشرين ساعة.

توفي البابا، وتولى الإشراف على ترتيبات اختيار البابا الجديد سكرتيره الكاهن الشاب الذي كان في مقتبل الثلاثينات، وكان ظل البابا الراحل وكاتم أسراره. وكان الترشيح يجري بين 165 كاردينالاً جميعهم بين الخامسة والستين والثمانين، كما تقضي الأعراف الكنسية. وكان الاختيار بين أربعة من كبار الكاردلة، ولكنهم قبل وصولهم إلى مكان التصويت تم اختطافهم، ثم التهديد بقتل واحد منهم كل ساعة، قبل أن يتم تفجير المدينة بأكملها خلال ساعات. ولم يتمكن أحد من التوصل إلى الخاطفين، ولم تكن لهم مطالب محددة يتفاوضون بشأنها، لكنهم أعلنوا لجميع وسائل الإعلام التي تابعت الأحداث لحظة بلحظة، أنهم ممثلو "الطبقة المستنيرة"، وأن العالم كله ليس بمقدوره إلا أن يتفرج على الفاتيكان بمبانيه التاريخية ومقتنياته الفنية ومكتبته العامرة بعشرات الآلاف من المجلدات السرية والعلنية، وهو يصبح أثراً بعد عين، ولا يمكن لأحد ولا هم أنفسهم أن يوقفوا هذه "المادة المضادة" عن الانفجار.

جرت الأحداث كما كان مخططاً لها، تم قتل الكرادلة الأربعة واحداً في إثر الآخر على يد قاتل مأجور، كان يختم على صدر كل منهم بعد قتله أحد الرموز السرية للجماعة والتي تعبر عن عناصر العلم القديم الأربعة (التراب والهواء والماء والنار). بل طال نفوذ الطبقة المستنيرة السكرتير البابوي نفسه المحاط بحراسة محترفة، وجرت محاولة لقتله ووسمه بشعار الطبقة المستنيرة الأعظم وهو "الماسة"، في إثبات أكيد ونهائي لانتصار العلم على الدين. لكن الكاهن الشاب نجا من الموت بمعجزة، وخرج إلى الجموع وهو يعاني أثر الحرق حيث الآلاف محتشدون في الساحة يرتقبون اللحظات الأخيرة والملايين في العالم كله يشاهدون الأحداث على الهواء مباشرة. وتلقى الكاهن الشاب رسالة غامضة من السماء توجه بعدها راكضاً إلى أحد السراديب تحت كنيسة القديس بطرس، وخلفه عدد من مناصريه وكاميرا تليفزيونية، وقبل انتهاء الوقت المحدد لانفجار المادة المضادة تمكن من انتزاعها، غير أنه كان عليها أن يبتعد بها في غضون دقائق عن الأماكن المقدسة، فتفتق ذهنه عن أن يركب طائرة هليوكوبتر حضرت لعلاجه، وقادها بنفسه، وطار في السماء إلى الأعلى وليس ناحية البحر ليلقي المادة، وهناك شاهد الجميع الانفجار المريع للطائرة، وهتفوا ببطولة الكاهن وتضحيته الأسطورية. لكن الأعجب أن الكاهن الشاب ظهر مرة أخرى بعد دقائق من الواقعة التي شاهدها أكثر من ملياري نسمة على الهواء، وتسلطت عليه أضواء الكاميرات، وهو يصلي لله شكراً من فوق أحد الكنائس. بينما الآلاف من الجماهير المحتشدة في ساحة الفاتيكان الرئيسية تهتف له وللمسيح وللمعجزة.

في الخمسين صفحة الأخيرة من الرواية، يكشف الروائي النابغة عن الخديعة التي تمكن بها السكرتير البابوي الشاب من أن يخدع وحده العالم كله، والتي لم تكتشف إلا بالمصادفة البحتة. وتكشف الرواية عن أن السكرتير البابوي قد تورط بقتل البابا (بجرعة دواء زائدة)، ثم إدعاء عودة الطبقة المستنيرة، ثم قتل العالم وسرقة المادة المضادة، والتهديد بها ليجمع القلوب حول الكنيسة، ثم اكتشافها حتى تفجيرها في الهواء بعد أن هبط بالباراشوت، ثم ظهوره بمظهر البطل الأسطوري الذي أنقذ العالم كله من كارثة محققة. وعند مواجهته أمام مجموعة الكرادلة، لم يبد أدنى ندم، وإنما تحدث عن الخدمة الجليلة التي قدمها للكنيسة بهذه المغامرة، فلم يشهد العالم المادي معجزات من هذا النوع من عشرات السنين، وظل العلم يكسب أراضً جديدة وأتباعاً جدداً كل يوم، دون أن يكون لديه رادع أخلاقي، في الوقت الذي يتناقص فيه باطراد أعداد المتدينين. قال السكرتير الشاب للكرادلة الغاضبين والذين كانوا يهتفوا قبل دقائق بمعجزته: إن الكنيسة بحاجة إلى إدارة شابة جريئة وليس كرادلة تقليدين أخذت السنون منهم الطاقة ولم تمنحهم الحكم. وقال لهم: إن التمثيلية التي أخرجها وحده ببراعة وصدقتها المليارات كفيلة بأن تكسب الكنيسة دفعة هائلة، كما أن قتل العالم الذي اخترع هذه المادة والتخلص من مادته وسر صنعها سيقضي على هذه الفكرة المدمرة الأبد،  وناشدهم قبل أن يتركهم لتشتعل فيه النيران، أن يبقوا هذا الأمر سراً بينهم، فيقضوا على مصداقية الكنيسة. رأى الكرادلة بعد اجتماعهم أن يبقوا الأمر سراً، ويستفيدوا من الزخم الذي حدث وسيستمر أثره لسنوات، وانتخبوا من بينهم "بابا" جديداً وسط حماس الآلاف في الساحة والملايين على شاشات التليفزيون.

رحم الله العم نجيب، فقد كان في "أولاد حارتنا" ملاكاً إذا ما قورن بالشيطان دان براون.