الوسوم

,

لماذا خفت الصوت المنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر؟

هذه  صفحات من تاريخ مصر المعاصر كي لا ننسى.

لقاء مع السيد الرئيس

لا أعرف تحديداً من كان الوسيط، ولا كيف أقنع الرئيس بإجراء المقابلة… ولكن يبدو أن مستشار الرئيس أقنعه، بأنه يجب أن يتعرف على قرب كيف يفكر هؤلاء الناس؟ وماذا يريدون تحديداً؟ وكيف يمكن استمالتهم وكسب ودهم وتعاطفهم؟ و أهمية نقل صورة إيجابية عن الرئيس في أذهانهم حتى لا يظهر بمظهر المعادي للدين والشريعة..

كان الوالد يقود سيارته البيجو البيضاء القديمة 504 بنفسه ويرتدي زيه الأزهري التقليدي، وبعد عدة أمتار من بوابة القصر الجمهوري فوجئ أن لوحة السيارة الخلفية سقطت. فأوقف السيارة، ثم غادرها واتجه نحو حقيبة السيارة وفتحها يبحث عن شئ يثبت به اللوحة.

لم تمر لحظات على هذه اللقطة، وإذا بعشرات الجنود والضباط يجتمعون حوله، وقد ذهبت بهم الظنون كل مذهب. وفي عجلة مفتعلة طلبوا إليه أن يواصل مسيره، وسيتكفلون بأمر اللوحة أثناء المقابلة. فاستجاب لهم وهو يعجب من هذا التوتر الحاد.

قابله أحد رجال البروتوكول وأجلسه في صالون خاص صغير، وأخبره أن الرئيس سيكون في لقائه خلال دقائق، بعد أن سأله عن اختياره من المشروبات. في هذه الدقائق ترك الوالد كل شئ وجلس يقارن بين موقفين، الأول أن يدخل مباشرة على الرئيس الذي قد يكون جالساً أو خلف مكتبه، وهنا سيضطر الرئيس إلى الوقوف لمصافحته ثم يعاود الجلوس، والموقف الثاني الذي هو فيه الآن حيث سيحضر الرئيس إليه ويضطر هو للوقوف لمصافحته، وهو ما يرفع الحرج عن الرئيس.

ورغم أن رجال البروتوكول يختارون هذه الطريقة تعبيراً عن تقديرهم للرئيس، إلا أنه وجد فيها ميزة أخرى، وإن فاتت على الجميع، وهي أن الرئيس في اللقطة الأخيرة هو الذي يسعى إليه، وهو ما هدأ من شأنه، بعد أن ألحت عليه لأيام ماضية أن يعتذر عن اللقاء تأثراً بموقف الإمام مالك حين قال لرسول هارون الرشيد الذي حضر لاستدعائه لمجلس الخليفة: “إن طالب العلم يسعى إليه أما العلم فلا يسعى لأحد”. والأغرب أن الخليفة حين حضر وطلب من الإمام أن يصرف الموجودين من طلبة العلم، أصر الإمام على بقائهم وقال: “إذا منع العلم عن العامة، فلا خير فيه للخاصة”.

في جلسته تلك كان يستجلب لنفسه العذر بأنه من واجبه كداعية أن يطرق الأبواب جميعاً تحقيقاً لمصلحة الأمة، فقد كان الإمام مالك نفسه يدخل على حكام المدينة وهم يظلمون ويجورون، وكان يقول لمن يستنكر فعله: “يرحمك الله، إذا امتنعت عن الدخول، فأين المتكلم بالحق؟”. و كان رحمه الله يعزي نفسه بأن العصر لا يحتمل أمثال مالك، لأنه خال من أمثال الرشيد.. كانت هذه المواقف تدور في خاطره، حين أقبل الرئيس مبارك ماداً يده مصافحاً بابتسامته المعروفة، فقام رحمه الله ورد التحية بأحسن منها.

لم يكن الحوار داخل القصر أقل سخونة من الموقف خارجه. ودار الحوار حول أربعة موضوعات أساسية، هي:

           التطرف الفكري للشباب ووسائل علاجه،

           و مستقبل جهود تطبيق الشريعة الإسلامية،

           و آليات إصلاح مؤسسة الأزهر الشريف،

           و توجهات وسائل الإعلام المصرية.

وأبدى الوالد اعتراضه على الممارسات التي يمارسها وزير الداخلية مع الشباب واعتدائه على حرمة المساجد، ومهاجمة الشباب بقنابل حارقة أو مسيلة للدموع. وقال الوالد الشيخ للرئيس إن كثيراً من مشكلات الشباب المتطرف يمكن أن تحل بالحوار معهم.

وفي هذا اللقاء اقترح الوالد إعادة تشكيل مجمع البحوث الإسلامية، الذي توقف عن العمل ونقص عدد أعضائه – بالوفاة – إلى أقل من الثلث. كما اقترح تشكيل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية على أساس علمي وعالمي ليكون رأيه ورأي مجمع البحوث هو الرأي النهائي في كل القضايا الدينية. في إشارة منه رحمه الله، إلى أنه في هذا العصر لا ينبغي أن يستقل بالرأي الديني أفراد، وأنه يجب أن نتحدث عن الاجتهاد الجماعي في القضايا الكبرى، فليس بين المعاصرين من يمكن أن يستحق لقب المجتهد المطلق، لا لنقص في علمهم، ولكن لتعقد الأمور محل البحث والاجتهاد.

وطرح الوالد فكرة أن يكون شيخ الأزهر بالانتخاب وليس بالتعيين. وهو المبدأ الذي رفضه الرئيس بحزم، بحجة أن الانتخاب لا يضمن أن يأتي بأفضل النتائج وأنه مدعاة للمناورات والتنازلات الانتخابية وهو ما لا يليق بعلماء الأزهر. ولم يخف الرئيس التأكيد على دعمه الشخصي للشيخ جاد الحق، بسبب علاقة قديمة كانت تجمعه بوالده. فقطع على الوالد الطريق لإبداء بعض الملاحظات في أدائه، والتي تتعلق إجمالاً بما يضطر شيخ الأزهر إلى فعله مما يتعارض مع عظم مكانته وجلال منصبه.

كما طالب الرئيس أن تولي الدولة مزيداً من الاهتمام بالدعاة وكليات الدعوة، وتوفير الاعتمادات المالية وحسن الاختيار لمن يتولون قيادة هذه الأجهزة الدعوية. كما طلب برعاية أكبر للنشاط الديني، حتى ترسل الدولة رسالة واضحة للشباب أنها ليست ضد الدين، وليست ضد التوجه الديني للمجتمع.

واقترح في هذا الصدد أمرين: الأول أن يحضر الرئيس ولو بشكل غير منتظم احتفالات تخرج طلبة الكليات الشرعية، أسوة بما يفعل مع طلبة الكليات العسكرية، فإذا كان هؤلاء هم حراس الوطن، فطلبة الأزهر هم حراس الدين. والأمن القومي يتطلب دعم الفريقين. كما اقترح لإثبات جدية التوجه تعيين نائب لرئيس الوزراء يتولى الإشراف على وزارتي الأوقاف وشئون الأزهر، على نحو ما كان موجوداً في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في بعض الوزارات.

وحين سأله الرئيس عن أسماء العلماء الذين يمكنهم أن يتولوا المناصب الدينية الرسمية الكبرى في مصر، أحجم خشية أن يساء فهم نصيحته. وإن قدم في وقت لاحق  –حسبة لله فقط-  أسماء من رأى فيهم المكانة التي تؤهلهم لشغل هذا المنصب الكبير. وكانوا في رأيه في هذا التوقيت أصحاب الفضيلة: الشيخ متولي الشعراوي، والشيخ عبد العزيز عيسى، والشيخ عبد المنعم النمر، والشيخ الطيب النجار (رغم أن الشيخ النجار حين كان رئيساً لجامعة الأزهر قبل ثلاثة أعوام أحال الدكتور عبد الغفار عزيز للتحقيق، واستبعده من عمادة كلية الدعوة الإسلامية، ولكنها شهادة الحق فيما نحب ونكره).

******

وتحدث الوالد الشيخ مع الرئيس مبارك عن موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية. ولم يحمله تحمسه للموضوع أن يغفل بعده السياسي، وهنا تحدث للرئيس ليس بصفة الشيخ الداعية، وإنما بصفة السياسي نائب البرلمان، وأعتقد أنه كان موفقاً في هذا المدخل، فقد أزال كثيراً من الحرج المسبق، ثم إنه أتاح للرئيس أن يسمع كلاماً عملياً بعيداً عن أحلام نظرية عسيرة التطبيق.

وكان مما قاله للرئيس في هذا الخصوص: “أنا أوقن كل اليقين أن تطبيق الشريعة الإسلامية بقرار فوري مفاجئ دون استعداد لتقبل أبعاده ونتائجه يعتبر ضرباً من المستحيلات وخروجاً على المألوف في مثل هذه الحالات الحرجة والحساسة من تاريخ الأمم والشعوب، كما يعد انقلاباً غير محسوب العواقب ضرره أكبر من نفعه وفشله أكبر من نجاحه، وغالباً ما يؤدي إلى نتائج عكسية… لكن هل يعني هذا أن نتوقف عن البدء في التنفيذ بحجة صعوبة هذا التنفيذ وهل نحجم تماماً عن العمل خشية وجود بعض العقبات أو المعوقات؟”

وفي محاولة لاستثارة الحماس قال: “سيادة الرئيس أنت لست أقل من الرئيس جمال عبد الناصر حين اتخذ قراره بتأميم قناة السويس، رغم أنه يعلم أن كل الدول الغربية ستكون ضده، ولكنه حسبها صح، ووقف الشعب بجانبه وانتصر. وتطبيق الشريعة ليس أصعب من تأميم قناة السويس، وغضب الغرب لن يكون أكبر، ووقوف الشعب معك لن يكون أضعف، وأنت لست أقل من جمال عبد الناصر”.

ثم لما شعر أن كلمته لم يكن لها المردود المناسب، قال في محاولة لاستجلاء الموقف: “هل نحن مؤمنون فعلاً بهذه القضية المصيرية؟ أم هي محاولات لامتصاص حماس الجماهير؟ سيادة الرئيس: إن التأني لا يعني التوقف، وعدم التسرع لا يعني الانتظار الطويل، والإعداد لا يعني السكوت التام. إن الدكتور صوفي أبو طالب قد أعلن وهو رئيس لمجلس الشعب أنه قد تم الانتهاء من تقنين قوانين الشريعة، وأنها الآن صالحة للتطبيق كان ذلك علم 1981. والآن الدكتور رفعت المحجوب يقول إنه لا توجد لديه قوانين للشريعة، وأنه لا داعي لإعداد قوانين جديدة. و أن كل ما يستطيع أن يفعله هو “تنقية القوانين الحالية مما يخالف الشريعة الإسلامية”، وأنه قد أرسل رسالة بهذا المعنى إلى شيخ الأزهر. وحين ذهبت لاستيضاح الموقف من شيخ الأزهر، قال إن هذه مغالطة وتحايل،  وقال ” يعني إيه ننقي؟!!، ها ننقي في المتنقي”. سيادة الرئيس أريد أن أسمع رأيك واضحاً في هذه المسألة؟؟”

وتحدث الرئيس طويلاً تعليقاً على هذه القضية. وقال إن الناس تقول إننا ضد الشريعة، وهذا غير صحيح، وأنا رجل متدين والأسرة كلها متدينة، وقبل مجيئك كنت أصلي مع الأولاد (يقصد علاء وجمال) صلاة العصر. ولا مصلحة لنا في عدم تطبيق الشريعة. ولكن علينا أن نحدد بالضبط ما الذي نريده منها. و قال إنه يسمع آراء كثيرة – يراها متطرفة- في هذا الموضوع، ولا يستطيع أن يستجيب لها جميعاُ لأنها ستسيئ إلينا في الخارج.

وأشار الرئيس إلى أن مصر تتعرض لضغوط خارجية كثيرة، وأن الديون تثقل كاهلها بما لا يمكنها من اتخاذ كامل قراراتها بحرية، وأن على الناس أن تتفهم ذلك، ولكني لا أستطيع أن أعلنه على الملأ بهذا الوضوح. وقال: هل تعلم أنه من بين كل خمسة أرغفة يأكلها الشعب المصري هناك أربعة نأخذهم من أمريكا. هل لو تمسكنا بموضوع الشريعة هذا بما لا يعجب أمريكا سيتحمل الشعب الجوع؟

وقال إن علينا أن نتحلى ببعض الذكاء في معالجتنا للأمر، فلا داعي لأن “نهلل” لكل مشروع و “نشبهه” (يقصد يوقعه في الشبهة). و إذا كان لدينا مشاكل في تغيير بعض القوانين القديمة، فلا داعي لأن نحجر رأينا في هذا الموضع، ووعد بأنه يستطيع أن يلتزم مع المجلس في أن ما يصدر عنه من الآن فصاعداً من قوانين جديدة لن يكون فيها ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهذا قرار نهائي، و”البركة فيكم، وهمتكم معانا “.

******