الوسوم

موجز تاريخ الأقباط في مصر

بالرغم من أن نسبة المسلمين في إنجلترا إلى عموم الشعب الإنجليزي أكبر من نسبة الأقباط في مصر إلى عموم المصريين، إلا أنه يصدق وصف “الأقلية” على مسلمي إنجلترا، ولا يصدق على أقباط مصر. كما أن أحلام مسلمي إنجلترا لتحقيق مكاسب تخص انتماءهم الديني في دولة عريقة في الديمواقراطية، لا ترقى لتكون معشار ما هو متحقق الآن للأقباط في مصر. والسبب واضح، وهو أن مسلمي إنجلترا في الأغلب الأعم وافدون بخلاف مسيحييها… أما أقباط مصر ومسلموها فهم من أهل البلد… شركاء في الوطن والتاريخ والمصير.

الأقباط عامة هم أهل مصر عندما فتحها المسلمون بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه في عهد الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهم يدينون بالديانة المسيحية، ويتنمون إلى الكنيسة الأرثوذكسية، التي يؤرخ لها بمجيء (الحواري مرقس) الذي دخل مصر عام 61 م. في وقت كان يعاني فيه المصريون من اضطهاد ومظالم الحكم الروماني الوثني.

و لم يكن انتشار المسيحية في مصر سهلاً. فقد استشهد القديس مرقس عام 68. و قام الإمبراطور دقلديانوس بمجزرة عام 284 م، فيما عرف بعصر الشهداء، ولم ينته هذا الاضطهاد إلا بدخول الإمبراطور قسطنطين (324-337م) في المسيحية واعترافه بالمسيحية ديناً رسمياً للإمبراطورية البيزنطية.

وقد شهد مؤتمر خلقودنية عام 451م برعاية الإمبراطور البيزنطي مرقيانوس انقسام الكنيسة الى مذهبين: مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح بزعامة كنيسة الإسكندرية، ومذهب الطبيعتين وتتزعمه كنيستا روما والقسطنطينية. وتسمى الكنيسة القبطية المصرية بكنيسة الإسكندرية لأن الإسكندرية كانت أول بلد نزل به القديس مرقس وتكونت فيه أول جماعة مسيحية مصرية.

و لم يسلم مسيحيو مصر الأرثوذكس من اضطهاد الرومان (الكاثوليك) الذين كانوا يحتلون مصر آنذاك. وأظهر الأقباط على مدار التاريخ بطولات وتضحيات هائلة للاحتفاظ بمذهبهم، حتى أن شقيق البطريرك القبطي -كما تقول الروايات- قتلوه بإسالة شحمه بالشموع المشتعلة، ووضعوه في جِرابٍ مثقَّب وأنزلوه في البحر عدة مرات، وهرب البطريرك (رئيس الكنيسة) واختفى عشرات السنين في الكهوف والجبال والأديرة البعيدة عن رقابة الرومان. وتتفق روايات ألد المؤرخين عداوة للإسلام على أنه لو لم يقع الفتح الإسلامي لأبيد الأقباط بإبادة كنيستهم وفتنتهم عن دينهم.

وقد ورد في نص عهد عمرو بن العاص الى أهل مصر: “هذا ما أعطى عمرو بن العاص الى أهل مصر من الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ، لا ينتقص شيء من ذلك ولا يساكنهم أحد من غير ملتهم”. ومن الواضح أن الشق الأخير من هذا العهد تمت صياغته لتحقيق رغبة خاصة لدى الأقباط حماية لهم من أصحاب الملل الأخرى من المسيحيين. و قد حرص الولاة المسلمين على رعاية أهل الذمة والوصية بأهل الكتاب عملاً بتعاليم القرآن الكريم وتوصيات السنة المطهرة، كما حرصوا على تقدير الرئاسة الدينية القبطية واحترامها ومخاطبتها بألقاب الشرف والتكريم.

وهكذا نشأت يبن العرب المسلمين الفاتحين وبين الأقباط من أهل البلاد علاقات ود واحترام حكمتها قواعد الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بأهل الكتاب، وهذا يفسر التحول البطئ لأبناء الأغلبية القبطية من المسيحيين إلى الإسلام، والذي استغرق حوالي أربعة قرون. فالعرب المسلمون الفاتحون لم يمارسوا أية ضغوط تذكر لتحويل الأقباط إلى الإسلام، كما أن الأقباط بدورهم لم يلمسوا تضييقا يذكر على حرياتهم الدينية اعتقادا وممارسة، يدفعهم إلى الدخول في الإسلام تقية من شيخ متعصب أو تزلفاً لحاكم متطرف. ومع نهاية القرن العاشر الميلادي وبداية القرن الحادي عشر أصبحت أغلبية سكان مصر من المسلمين وحكمت هذا التحول عوامل واعتبارات اجتماعية – اقتصادية – سياسية – ثقافية مختلفة.

وبالرغم من روح المودة والتعاون الغالبة إلا أن الأقباط ظلوا يغالبون شعوراً بأنهم أقل من المسلمين فيما يخص المساواة في الحقوق والواجبات، شأنهم شأن بقية أهل الكتاب (الذميين) فى دار الإسلام. كما أنهم تعرضوا في لحظات تاريخية، وان كانت قصيرة وعابرة لصنوف مختلفة من التفرقة والاضطهاد. ومن المفهوم أن ينشأ بينهم تيار متشدد ينادي بطرد المسلمين، والاستيلاء على مقاليد الحكم، لكن هذا التيار كان يقابل بالتوجيه والاحتواء من داخل الجماعة القبطية نفسها، لتعذر تنفيذه عملياً، وللآثار السلبية التي يمكن أن يتعرض لها الأقباط فيما لو دخلوا في مواجهة مسلحة مع الأغلبية المسلمة والتي تنتمي في عمومها إلى نفس الأصول العرقية التي ينتمي إليها الأقباط، ويقل فيها الوافدون من خارج القطر المصري.    

تاريخياً: لم يندمج الأقباط اندماجا كاملا في الحياة السياسية في مصر إلا مع ميلاد الدولة الحديثة وبواكير الحياة المدنية في عصر محمد على (1801- 1884). ووصل الاندماج إلى أقصاه فيما يسمى بالعصر الليبرالي الأول الذي بدأ بثورة 1919 وانتهى بثورة 1952 في تلك الحقبة تمكن الأقباط من تحقيق كل المناصب السياسية، شأنهم شأن المسلمين فكانوا نواباً في البرلمان و وزراء و رؤساء وزراء ورؤساء برلمان.

ويعتبر المؤرخون الأقباط عصر محمد علي وأبنائه (1805-1952) هو العصر الذهبي للأقباط منذ دخول الإسلام إلى مصر، وهو العهد الذي انتهى في نظرهم بقيام ثورة يوليو. ويشيرون في ذلك إلى ما قام به محمد علي من إلغاء قيد الزي الذي كان مفروضا على الأقباط في العصور السابقة. كما أنه لم يذكر لمحمد علي أنه رفض للأقباط أي طلب تقدموا به لبناء أو إصلاح الكنائس. و تعددت هذه الموافقات لبناء الكنائس في عهود سعيد باشا والخديوي إسماعيل باشا. كما كان الوالي المصري محمد علي أول حاكم مسلم منح الموظفين الأقباط رتبة البكوية واتخذ له مستشارين من المسيحيين.

وفي عصر سعيد باشا (1854-1863)  تم تطبيق قانون الخدمة العسكرية على الأقباط وألغى الجزية، ودخل الأقباط لأول مرة في سلك الجيش والقضاء وسافر بعضهم إلى أوروبا، كما أنه عين حاكما مسيحيا على ولاية مصوع بالسودان.

وفي عهد سعيد باشا أصدر السلطان العثماني عبد المجيد خان المعروف بعبد المجيد النظامي في 18 فبراير عام 1856، ما عرف لاحقاً باسم “الخط الهمايوني” أي “المرسوم العثماني” (كلمة همايون معناها طائر محلق وهو لقب أطلق على السلطان العثماني لعلو شأنه)، وذلك لتنظيم ممارسة الشئون الدينية لرعايا الدولة العثمانية من مسلمين وغير مسلمين في الولايات المختلفة. ويعد هذا المرسوم أول وثيقة منذ دخول العرب مصر تعطي غير المسلمين الحق في التعبد وممارسة عبادتهم بحرية ودون تدخل أو إهانة أو إزراء.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بنود “الخط الهمايوني” الذي يشتكي منها الأقباط اليوم، تمت صياغتها بناء على طلب من الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، وبعد وساطات متعددة وإلحاح شديد من وجهاء الأمة من النصارى والمسلمين لمواجهة الزحف الكاثوليكي والبروتستانتي، الذي جاء إلى مصر عبر البعثات التبشيرية من أمريكا وألمانيا وفرنسا وذلك للتبشير بالمسيحية بين المسلمين في مصر، ولكنه وجد آذاناً صاغية من بعض أتباع الكنيسة الأرذوثوكسية وأثار بينهم الانشقاقات والخلافات، وهز صورة الأقباط في عين شركائهم في الوطن من المسلمين، ولم تقدر الكنيسة المصرية بإمكاناتها في هذا الوقت من مجاراة البذخ والإسراف والمغريات التي جاء بها الكاثوليك والإنجيليين، وخشية من تحول الأقباط إلى هذه الكنائس الوافدة مع الإرساليات الأجنبية سعى الأقباط إلى صدور هذا القانون الذي يجعل قرار الموافقة على إصلاح أو ترميم أو بناء كنيسة جديدة في يد الباب العالي، – ومنه انتقل إلى رئيس الجمهورية- بغرض التصدي للزحف التبشيري الخارجي حماية للنصارى قبل أن يكون تضييقاً عليهم.

أما الخديوي إسماعيل باشا (1863-1878) الذي تلقى علومه في فيينا ثم باريس فقد أقر علانية ورسميا بترشيح الأقباط لانتخابات أعضاء مجلس الشورى، كما قام بتعيين قضاة من الأقباط في المحاكم. وهو أول حاكم طلب رتبة الباشوية لرجل مسيحي وقد شغل كثير من الأقباط في عصره مناصب عالية –وليست هامشية- فقد شغل واصف باشا وظيفة كبير التشريفات. وقد أيد البابا (كيريللوس) الخامس رسمياً ثورة عرابي القومية الأمر الذي دفع قوات الاحتلال لخلعه ونفيه ووضعه تحت الإقامة الجبرية في دير وادي النطرون.

وينظر إلى ثورة 1919 كمثال ناصع من أمثلة الوحدة الوطنية والتي أفرزت شعارات من مثل “الدين لله والوطن للجميع” و “عاش الهلال مع الصليب”. وكانت بداية لمشاركة الأقباط في الحياة السياسية بقوة، ولذلك لم يكن بمستغرب أن ينتخب ويصا واصف –محطم السلاسل- رئيسا لمجلس النواب (البرلمان). وقد كتب غاندي إلي سعد زغلول يحييه علي الوحدة الوطنية في مصر‏,‏ ويتمني للهند أن تحقق ما حققته مصر من سلام وتفاهم وتعاون كامل في خدمة الوطن بين الجميع‏,‏ وإن اختلفت العقيدة الدينية‏.

‏وقد كان سعد زغلول يتباهى بأنه لا يفرق بين مسلم وقبطي و يؤكد باستمرار: بأن مصر تخص الأقباط بقدر ما تخص المسلمين سواء بسواء. كما أنه اختار وزيرين قبطيين في وزارته التي قام بتشكيلها في يناير سنة‏1924‏ هما‏:‏ واصف بطرس غالي‏,‏ ومرقص حنا‏,‏ ولم يقبل سعد زغلول اعتراض الملك فؤاد علي ذلك‏,‏ فقد كان الملك يري أن التقليد المعمول به هو اختيار وزير قبطي واحد في الوزارات المصرية‏.‏ وقد تمسك زغلول بموقفه ولم يستجب لاعتراض الملك‏.‏

وعندما تولى سعد زغلول نظارة المدارس عام 1907 أصدر قراراً بإدخال تعليم الديانة المسيحية في المدارس على أن يقوم بتدريسها المدرسون الأقباط في كل مدرسة. ومنحت الجمعيات القبطية حق الإشراف على وضع المناهج وتدريسها. وأضيف هذا المنهج أيضا في مدارس المعلمين العليا. وفي عام 1949 أصبحت مادة الدين من بين مواد الدراسة وذلك للمساواة بين التلاميذ المسلمين والمسيحيين في تعلم الديانة.

….

(رحلتنا …..مستمرة)