الجمع والقصر

 

سألني صديقي: لماذا توقفت عن الكتابة؟ وعندما لم أجد سبباً مباشراً قلت له: لأنني أقيم في فندق. هل كنت أقصد أن فخامة الفندق تدفع إلى الاسترخاء والكسل؟ أم كنت أقصد أن المسافر معذور لأنه بنصف عقل ونصف تركيز، ولذلك شرع الله له القصر والجمع في الصلاة حتى لو كان يسافر على درجة رجال الأعمال.

على كل حال، لم يبق لي في الفندق وقت طويل، وها أنا ذا أقصر وأجمع في الكتابة كما أفعل في الصلاة.

……..

كنت أستمع من لحظات على موقع اليوتيوب على مناظرة بين السادات وعمر التلمساني رحمهما الله تعالى، وقد أنكر السادات على التلمساني بعض مواقفه، فرأى الشيخ العظيم أن الرئيس قد أسرف في الاتهام بغير دليل، وقال: لو كان هذا الكلام من غيرك لشكوته إليك، ولكني لا أجد إلا أن أشكوك إلى الله تعالى. وبعد كلام كثير، لم ينس الرئيس السادات شكوى الشيخ وخاف منها، وقال له: يا عمر اسحب شكواك فأنا أخاف الله. ورد التلمساني بعدها في جرأة وبلاغة: لقد آذيتني بكلامك حتى أنني سوف أرقد بعده شهوراً مريضاً… وإذا قبضني الله إليه فسيعلم فيما كان مرضي وإيذائي، ثم قال: لن أسحب شكواي وأنت يا محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية لا تجزع، فقد شكوتك إلى عادل.

كم مرة جلس الرئيس مبارك جلسة كهذه مع علماء المسلمين طيلة 28 عاماً قضاها في الحكم؟

وكم مرة خاف من شكوى مظلوم وانتفض كما فعل السادات؟

…….

الآن وأكثر من أي وقت مضى في حياتي، يقفز “الاستبداد السياسي” على رأس قائمة الواقع المرير الذي يحتاج إلى نسف فوري في عالمنا العربي. الآن وأكثر من أى وقت مضى في حياتي أيقنت أنه لا أمل في نهضة اقتصادية أو تطور تعليمي أو صحي أو أمني دون تحقيق الإصلاح السياسي الكامل والشامل والحقيقي.

لا يهمني أن الاستبداد مرادف للظلم، ولا أنه مصحوب باستعلاء واستكبار ولا أن فيه حطاً من شأن الآخرين واحتقاراً لهم، ولا أنه يوقع الأمم التي تقبل به في المهالك ويجعلها أدنى منزلة من سائر الدول، ولا أنه بؤرة خصبة لنمو الفساد المالي والأخلاقي والانتشار الواسع لقيم النفاق والتزلف والوصولية، ويقطع الطريق أمام الجادين والمجتهدين والمخلصين…

يهمني فيه أنه اعتداء فج ومباشر على “سلطان الله تعالى”، وادعاء كاذب بالحصول على توكيل بالحكمة وتفويض بالحكم.

إذا انتحل شخص صفة ضابط شرطة كان جزاؤه السجن بضع سنين، فما جزاء مخلوق يتكبر ويغتر وينتحل صفة الخالق؟

…….

السكوت على “الاستبداد السياسي” ليس فقط تنازلاً عن حق شخصي أو حق مجتمعي، وإنما رضا وقبول بالمنكر، وهذا المنكر ليس معصية تتغلب فيها الشهوة كالزنا وشرب والخمر، ويعود ضررها على مرتكبها، وإنما هو كبيرة تجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الشرك. والأمر خطير جداً على المستبد وعلى من تركه يستبد، ومن أعانه على استبداده وفتن الناس وطاردهم وهددهم.

لنفس السبب الذي تغضب فيه من الزاني والمرابي، افعل الشيء نفسه مع المستبد لا تساكنه ولا تصادقه ولا تصدقه… وابذل كل جهدك وطاقتك في خلعه.

لا نريد بيننا زناة ولا مرابين ولا معاقري خمر….

لا نريد بيننا مستبدين.

………

لا تصدق أن المستبد يمكن أن يكون عادلاً. وإياك أن تنادي بأن يحكمنا مستبد عادل، فهذا هو مدخل كل المستبدين للظلم والبطش والقهر.

أقول لك من أين يأتي الخلط؟

يحدث – في حالات استثنائية – أن يصل حاكم عادل إلى الحكم، فيفرح به الناس ويعلقون عليه الآمال. ثم يحدث – إلا في حالات نادرة- أن يجد هذا الحاكم أن وسيلته الوحيدة للبقاء في الكرسي أطول فترة ممكنة هي الاستبداد. أقول لك لا يمكن لحاكم أن يرتدي ثوب الاستبداد إلا إذا خلع ثوب العدل.

لا يوجد مستبد عادل…

يوجد مستبدون كانوا عادلين… قبل أن يستبدوا.

……

من صفات المستبد الغرور والغباء… وما جورج بوش منا ببعيد.

وفي قصة فرعون موسى عجب عجاب، ففرعون طارد موسى حتى البحر، فضرب موسى بعصاه البحر فشق الله له فيه الطرق العريضة. هل يتوقف فرعون أمام هذه المعجزة الخارقة، ويقول لا طاقة لي بموسى وربه؟ لا… إنما قاده غروره إلى تصديق أن هذه الطرق قد شقت له أيضاَ ليلحق بموسى، وقاده غباؤه إلى الظن بأنه لو أسرع الخطا لحقق هدفه في البطش بموسى ومن معه، ونسي كل التاريخ بداية من أنه ربى موسى في بيته، وأن موسى قدم له المعجزات واحدة تلو الأخرى، وأن معجزة شق البحر التي أجراها رب موسى هي لإنقاذ موسى منه وليس لتمكينه من موسى… ولكن الغرور والغباء إذا استحكم أعمى البصر والبصيرة.

أرى الله تعالى الآن قد شق البحر لعباده المؤمنين

و أرى فرعون العصر الحديث مصمم أن يتجاهل كل شيء، وأن يتمادى في مطاردته، وما هي إلا أيام أو شهور معدودة… ثم يطبق الله البحر عليه وعلى ذريته وعلى كل من معه.

اللهم آمين.

………