هل يجوز تهنئة النصارى بعيد الميلاد المجيد؟
 
على شبكة الإنترنت مئات المواقع وآلاف الصفحات التي "تفتي"بحرمة تهنئة النصارى بعيد الميلاد المجيد، وترى أن هذا هو رأي "العلماء الربانيين"، وأن هذا هو ما جرى عليه "الإجماع" عبر القرون، وأن القول بغير ذلك تمييع للدين، وإقرار لغير المسلمين بصحة عقيدتهم، ومخالفة للنصوص الشرعية الثابتة
 
وكان على أن أتثبت من هذه الفتاوى… خاصة مع انتشارها انتشار النار في الهشيم… حتى بدا لي وكأن القول بخلاف ذلك يعرض المسلم لإثم كبير يمكن أن يؤدي به إلى الخروج من ملة الإسلام والعياذ بالله.
 
وخلاصة ما انتهي إليه بحثي المطول، والذي أبدأ في عرضه على حلقات، هو ما يلي:
 
1-    لا توجد آية واحدة أو حديث واحد قطعي الثبوت والدلالة يؤكد على حرمة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. كما لا توجد آية واحدة أو حديث واحد يوجب على المسلمين – كل المسلمين – أن يقوموا بذلك. فالأصل أنه لا إثم على من فعل ولا عقوبة على من لم يفعل.
 
2-    حكاية الإجماع المنقولة عن الإمامين الجليلين ابن القيم وابن تيمية بتحريم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم تخالف ما جرى عليه عمل الرسول والصحابة والتابعين، وربما أمكن تأويلها بإجماع علماء عصرهما وموضع إقامتهما بالشام لظروف سياسية واجتماعية خاصة (كما سيلي بيانه).
 
3-     الأصل والموافق لما عليه شريعة الإسلام وعمل المسلمين عبر القرون هو بر غير المسلمين بمقتضى العرف السائر ورد التحية بأحسن منها لمن لا يعادوننا و لا يشغبون علينا.
 
4-    لتقديم التهنئة ضوابط تتلخص في ألا تشتمل التهنئة على عبارات فيها إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما تكون كلمات مجاملة تعارفها الناس. وألا نجلس تحت صلبانهم، وألا نعظم أياً من شعائرهم، وألا نشاركهم في طقوسهم الدينية، وألا نذهب بنسائنا إلى كنائسهم المختلطة.
 
 
5-    لا يجوز للمسلمين أن يقيموا الاحتفال بعيد الميلاد ولا التشجيع عليه، ولا فعل ما من شأنه تهديد للهوية ومسخ للثقافة الإسلامية.
 
6-    لا يوجد حكم واحد في المسألة. فالمسلمون إذا كانوا أغلبية لهم حكم يختلف عن المسلمين إذا كانوا أقلية. و لا موجب لتحريم التهنئة على من لديهم مصلحة في أدائها مثل الجار والقريب وزميل العمل والمسئول السياسي وغيرهم.. تأليفاً للقلوب ودرءاً للفتنة.
 
7-    على القائم بالتهنئة أن يؤديها دون مبالغة، وهو واثق من دينه ومن علمه ومما يقول ويفعل، وأن نحسن تمثيل الإسلام ديناً خاتماً، وألا يقع في المنكرات أو المحظورات الشرعية. وبدون شبهة التنازل عن العقيدة أو التهاون في احترام الشريعة. وبعض ذوي الشأن مقصر لو لم يفعل.
 
……………
 
وقد قرأت بكل عناية وتفصيل جميع الأدلة والشواهد والقرائن والنقول التي جاء بها القائلون بالتحريم، ووجدت أن أياً منها لا يرقى ليكون دليلاً قطعي الثبوت قطعي الدلالة على حرمة التهنئة. وأنا أذكر هنا ملخصاً لها، ويمكن لمن يريد أن يعود إلى مصادرها في مظانها.
 
الآيات التي يستشهد بها القائلون بالتحريم:
 
قوله تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين "
 
وجه الاستشهاد: أن الصلوات في الكنيسة هي ترديد لعقائد لا يقر بها المسلمون مثل اعتبار أن المسيح ابن الله، وأنه هو الروح القدس، وأنه هو المخلص.. إلخ.. والذهاب إلى الكنائس لتقديم التهنئة يقتضي الاستماع إلى هذه المخالفات والواجب الإعراض عنها.
……….
 
"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"
 
وجه الاستشهاد: أن تقديم التهنئة هو مخالف لقوله "ومن يتولهم". يعني يوافقهم ويقرهم.
………..
 
قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"
 
وجه الاستشهاد: أن المشاركة مع الكفرة في أعيادهم هو نوع من التعاون على الإثم والعدوان. وعليه فلا يحل للمسلمين أن يبيعوا النصارى شيئا في مصلحة عيدهم، لا لحما، ولا دما، ولا ثوبا، ولا يعارون دابة، ولا يعاونون على شيء من دينهم، لأن ذلك من تعظيم شركهم، وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك.
………
 
قوله تعالى: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لـعـبـاده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم"
 
وجه الاستشهاد: أن في التهنئة إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر ورضى به لهم.
……….
 
قوله تعالى: " ومن يبتغ غـيــر الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"
 
وجه الاستشهاد: أن أعياد غير المسلمين ليست بأعياد لنا. وهي نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عـلـيه وسلم إلى جميع الخلق. وإجـابــة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم به لما في ذلك من مشاركتهم فيها، ومــن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياءاً أو لغير ذلك من الأســـبـاب؛ لأنه من المداهنة في دين الله ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم.
…………
 
الأحاديث التي يستشهد بها القائلون بالتحريم:
روى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم، والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم: عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد، عن عطاء بن دينار قال: قال عمر: " لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ؛ فإن السخطة تنزل عليهم ".
 
قال عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -: رأى رسول الله صلى الله علـيــه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" وفي رواية فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟" قلت: أغسلهما؟ قال: "بل احرقهما". قال القرطبي: "يدل على أن علة النهي عن لبسهما التشبه بالكفار".
………..
 
من أقوال الصحابة رضي الله عنهم:
 
عن عمرو بن الحارث سمع سعيد بن سلمة ، سمع أبان ، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم ".
 
عن عبد الله بن عمرو قال : " من بنى ببلاد الأعاجم ، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك ؛ حشر معهم يوم القيامة "
 
عن محمد بن سيرين قال: " أتي علي رضي الله عنه بهدية النيروز، فقال : ما هذه ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين، هذا يوم النيروز، قال : فاصنعوا كل يوم نيروزا" " قال البيهقي : وفي هذا : الكراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصا به .
 
قال تعالى (والذين لا يشهدون الزور…..) 72 الفرقان . ورد عن ابن عباس و مجاهد والربيع بن أنس وعكرمة والضحاك قالوا هو (أعياد المشركين).
 
………..
 
هذا هو أقوى ما يستدل به القائلون بالتحريم من "النصوص الأصلية". أما ما عدا ذلك من آلاف الصفحات التي ستجدها على الشبكة العنكبوتية، فهي "نصوص ثانوية" مثل ما يعرف ب"الشروط العمرية"، بالإضافة إلى عدة نقول تعرض آراء بعض الأئمة من المذاهب الأربعة وعدداً من الفقهاء القدامى، وعشرات من "الفتاوى" والإجابات على الأسئلة من عدد علماء نجد والشام، ومن تابعهم من العلماء المصريين.
 
وبمزيد من التأمل في هذه النصوص الثانوية، سنجد أن مصدرها "الوحيد" هو وكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" للإمام ابن تيمية، و كتاب "أحكام أهل الذمة" لتلميذه الإمام ابن القيم. وتقتضي الأمانة نقل ما قاله الإمامان الجليلان.
 
رأي الإمام ابن القيم:
 
يقول الإمام ابن القيم: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سَلِمَ قائله من الكفر فهو من المحرمات،وهو بمنزلة أن يهنئه بسجودهِ للصليب ،بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمور وقتل النفس وارتكاب الفَرْج الحرام ونحوه، وكثير مما لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ،وهو لا يدري قبح ما فعل.فمنهنأ عبدا بمعصية أو بدعه أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه.

وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه ،وإن بُليَّ الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشريتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك وبالله التوفيق.

…………..
 
رأي الإمام ابن تيمية
قال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى "لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغـتـســــال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة ولا الإهـــداء ولا الـبـيـع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللـعــب الذي في الأعـياد ولا إظهار زينة. وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائـرهـــم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام".
 
قـال شـيـخ الإسلام: "وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك؛ بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، ومن أهدى مـن الـمـسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته؛ خـصـوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعـيـن به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر".
 …………..
 
وتبدو المسألة منتهية أمام هذا السيل الجرار من العلماء والآراء القدامى والمحدثين، والآيات والأحاديث… بحيث يتخيل من يقرأ لأول مرة أن هذا بالفعل هو "رأي الدين"… وأن هذا هو ما جرى عليه الإجماع عبر القرون.
 
والحقيقة أن المسألة بخلاف ذلك تماماً… ولكنها تحتاج إلى بعض العرض والتوضيح…
 
نقوم به بإذن الله تعالى في مقالات تالية. فالله الموفق والمعين.
………………