في حفل الأوسكار عام 1959 أعلن عن فوز الكاتب روبرت ريتش بجائزة أفضل سيناريو عن فيلم الشجاع، وانتظر الجميع صعود الفائز الذي لم يكن بعرفه أحد، ولكن لم يتقدم أي شخص لاستلام الجائزة. تبين بعد ذلك أن هذا الاسم مستعار، وأن الكاتب الحقيقي هو واحد من 150 فناناً أمريكياً دونت أسماؤهم في القائمة السوداء منذ سنوات بتهمة أنهم شيوعيون أو متعاطفون مع الشيوعية، وكان ممنوعاً عليهم العمل مع شركات الإنتاج الكبرى.
تطور الأمر بعد ذلك واعترف عدد من صانعي الأفلام الهوليودية أن حوالي 15% من أفلامهم يكتبها هؤلاء الموهوبون من الموضوعين على القوائم السوداء. ولم يطق الفنانون هذا النفاق، وهذا التضييق غير المبرر، وخرجت مجموعة من كبار الفنانين مثل كلارك جيبل وآفا جاردنر وغيرهم وتوجهوا في مظاهرة إلى الكونجرس الأمريكي ونجحوا في إلغاء هذه القائمة المشبوهة.
جوزيف مكارثي المولود عام 1908 السيناتور الجمهوري الأمريكي هو أول من دعا إلى هذه الفكرة عام 1950 أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، عندما قدم – باسم الوطنية والحب المطلق للتراب الأمريكي – قائمة بحوالي 200 من موظفي الخارجية الأمريكية، وأضاف إليهم 57 عضواً في الحزب الشيوعي. تبع ذلك حملة مكثفة لمطاردة أعضاء بارزين في الحزب الديموقراطي مثل جورج مارشال ودين اكسون.
ومنذ هذا الوقت، يستخدم مصطلح المكارثية للتعبير عن ممارسات الإبعاد والإقصاء التي تستخدم ضد المعارضين أو المخالفين للنظام السياسي لمجرد الشبهة. وقد أدت هذه الممارسات التي كانت تأخذ الناس بالشبهة، إلى انتشار حالة عامة من الفزع بين الأمريكيين، خاصة مع الفساد في توجيه الاتهامات واستخدامها كأداة لتصفية الحسابات. كما أضير المئات بسببها وفقدوا وظائفهم وعائلاتهم دون مبرر. وقد اعتذر الرئيس ريجان حين عين رئيساً للولايات المتحدة عن بعض شهاداته على زملائه في هذه الفترة، واعترف بأنه ما أكثر الأبرياء الذين أضيروا بسببه في هذه الحملة.
دان مجلس الشيوخ المكارثية في 1954، وفقدت هذه الحملة شعبيتها وتعاطف الناس معها، بعد أن شعر الشعب بعدم جدواها ورصد العديد من حالات إساءة الاستخدام، والتمييز والتطرف والمحاسبة على النوايا والضمائر. وتوقفت الحملة تماماً عام 1950، وخرج جوزيف مكارثي من الحياة السياسية حتى توفي عام 1967 منبوذا مدمنا مريضا.
………
تداعت إلى ذهني هذه المعلومات وأنا أتابع حماس مجلس الوزراء المصري لإعادة تطبيق قانون الغدر المجمد من عام 1954، والذي صدر في عهد عبد الناصر ليحاسب به قادة الأحزاب المصرية قبل الثورة بتهمة إفساد الحياة السياسية، والذي تم استخدامه لتصفية الحياة السياسية المصرية، وتكريس حكم الفرد، والقضاء نهائياً على واحدة من مطالب ثورة يوليو 1952 وهي: إقامة حياة ديموقراطية سليمة.
تتحدث الأنباء عن آلاف من "أركان النظام" سيتم استبعادها من العمل العام وإقصائها من وظائفها الحالية، وحرمانها من العمل السياسي لمدة تصل إلى 5 سنوات. ولا أدري لمصلحة من هذا كله، وما الداعي إلى فتح جبهة جديدة من العداء للثورة وتغذية الثورة المضادة بأعضاء جدد، كان من الممكن استقطابهم والاستفادة من خبراتهم العملية.
الحزب الوطني لم يكن حزباً أيدلوجياً له عقيدة راسخة تسري في عقول وقلوب أتباعه ويمكن أن تجمعهم مرة أخرى فيعودوا أقوى وأشد. وهو ليس حزب البعث العراقي. وحتى قانون اجتثاث البعث الذي كان ضرورياً بعد سقوط صدام حدثت تجاوزات في تطبيقه، وتعطل تشكيل الحكومة العراقية الأخيرة عدة أشهر بسبب صدور أحكام بالحرمان السياسي ضد رموز قوية فشل استبعادها، وأخشى أن يحدث الشيء نفسه في مصر.
توصيف "أركان النظام" المطلوب حرمانهم سيكون فخاً، فإما أن يتوسع القانون في التوصيف فيصيب آلاف الأبرياء من ذوي السمعة الحسنة والكفاءة، والذين يعاقبون بأثر رجعي على إنتمائهم لحزب سياسي شرعي وهذا مجاف للعدل والعرف والشرع، وإما يتم تضييق التعريف فيفرغ القانون من مضمونه ويصبح عديم الجدوى والفاعلية.
ومن قال إن أركان النظام هم من السياسيين أو العاملين في الحكومة فحسب. إن كثيرين ممن يمكن أن ينطبق عليهم هذا الوصف هم من من الفنانيين والرياضيين ورجال الأعمال والإعلاميين وأساتذة الجامعات حتى لو لم يكونوا منضمين رسمياً للحزب الوطني، فكيف يمكن أن يطبق عليهم أحكام الاستبعاد؟ بل إن تطبيق هذا الوصف يمكن أن يطول عدداً من قادة أحزاب المعارضة.
إن القضاء المصري مثقل بالمئات من قضايا الفساد، وتحميله آلاف قضايا الاستبعاد التالية هو مضيعة للجهد والوقت والمال فيما لا طائل من ورائه. أما إصدار قرارات إدارية بالاستبعاد فهو مخالفة قانونية تتيح لكل المستبعدين أن يرفعوا قضايا عودة وقضايا تعويضات تتحملها خزينة الدولة ويدفعها الشعب المسكين، وكأن عليه أن يدفع ثمن بقاء الحزب الوطني ثم يدفع مرة أخرى ثمن رحيله.
إنني أتفهم الضغط الشعبي الذي تمارسه بعض القوى السياسية على الحكومة، وأتفهم دوافع الحكومة لإرضاء الثوار لكن هذا لا يكون على حساب مصلحة الوطن. إنني أتخيل المشهد بعد حدوث حالات الإقصاء الجماعي للآلاف. عندما تتولد لديهم حالة من الاحتقان والغضب، وتتولد لدى بعضهم إحساس بأنه مظلوم وبأنه "راح في الرجليين"، ويتحول من مؤيد للثورة ومتعاطف معها إلى حاقد عليها حانق على كل من فيها.
لقد قرأت قائمة بأول 50 اسماً مرشحين للاستبعاد ووجدت منهم أسماء هي محل تقدير من عدد كبير من المصريين، ولمحت شبهة غيرة سياسية وراء هذا القرار الذي أجد أن مضاره أكبر من منافعه.
إنني أرى أن الشعب المصري بذكائه الفطري ووعيه السياسي هو الأقدر على التمييز بين من يستحق الإقصاء ومن يستحق الإبقاء في المرحلة القادمة. وأرى أن يكون هذا متروكاً للاختيار الشعبي الحر المباشر، وليس مفروضاً بقانون استثنائي تطاله شبهة عدم الدستورية، وتقف وارءه جماهير غاضبة لم تمنح لنفسها الفرصة في أن تتأمل المشهد بهدوء، وتقدر بموضوعية حساب الأرباح والخسائر.
أعلم أن هذا الرأي لا يرضي كثيرين، خاصة من الذين سوف ينزلون غدا! إلى ميدان التحرير، وقد أكون مخطئاً وقد أكون مصيباً… ولكني بالتأكيد سوف أخضع لرأي الأغلبية، فإن رأت المنع والحرمان، فليكن ذلك فوراً ودون إبطاء، وإن رأت غير ذلك، فأنا مع غي ذلك.
والله تعالى أعلى وأعلم.