الوسوم

 

(حلقات مسلسلة يمكن متابعتها على الرابط: http://waelaziz.maktoobblog.com/?cat=38657)

 كان الشيخ عبد الغفار عزيز لا يزال دون الثلاثين حين سافر مع الجيش المصري واعظاً في حرب اليمن بين عامي 1965 و 1966.  وكانت مهمته الرسمية شحذ عزيمة الجنود المصريين لمحاربة المتمردين اليمنيين من أنصار "الإمام".

أما ما كان يقوم به فكان على العكس تماماً.

لك أن تتفق أو تختلف معه. لكن قناعته التي نفذها ودفع ثمنها، أنه لا معنى ولا مبرر ولا شرعية لأن يرفع الجندي المصري السلاح في وجه شقيقه اليمني. وكان إذا جلس مع الجنود المصريين دعاهم إلى توجيه أسلحتهم إلى صدور اليهود في إسرائيل. وكان يعقد المحاضرات الدينية العامة فيحضرها جنود مصريون ومحاربون يمنيون يفترشون نفس الحصير، يستمعون في إصغاء وإعجاب إلى "شيخ الإسلام" الشاب حسب وصف اليمنيين، فتكون لكلماته ما يكون من صون دماء الطرفين ما استطاع، حتى إذا حمى الوطيس واشتد الوغى عاد الطرفان لقتالهم الشرس الخالي من الهدف والمعنى.

وظل رحمه الله يمارس هذه المهمة النبيلة بمخالفة صارخة للأوامر العسكرية، وتمرد واضح على دوره الموكل إليه من حشد وتعبئة الجنود المصريين ضد تخلف القبائل اليمنية المعادية للشرعية.

وقد اكتشف – وكشف لقادته المصريين- أن اليمنيين يرون الجنود المصريين كفاراً، لأنهم يحاربون "الإمام" رمز الإسلام وخليفة المسلمين. وكانت لعمامته دورها في حماية كتيبة مصرية كاملة من التنكيل و "الذبح" لمجرد أنه بينها. وكان لنفس العمامة دورها في حماية قرية كاملة من الدهس بالدبابات المصرية لأنه أعطى كبيرها كلمة شرف.

وفي ليلة غاب فيها القمر خرج في سيارة جيب مع دورية روتينية. كان الضابط المصري يجلس بجوار السائق المجند، بينما كان هو وطبيب البعثة وجندي ثالث يجلسون في المقعد الخلفي. وكان طريق الحديدة- صنعاء ملتوياً وغير ممهد ويحتاج إلى حذر في القيادة. لم تمر دقائق على خروج الدورية حتى انطلقت طلقتان بالعدد أصابتا مصباحي السيارة الأماميين فاستحال على السائق التحرك، فتوقفت السيارة تماماً.

ولدواعي الأمن، يصمم مصباح السيارة الداخلي بحيث يضيء من أسفل. سأل الضابط الشيخ عبد الغفار عن الساعة فانحنى برأسه يقترب من الضوء ليتأكد من الساعة تماماً في نفس اللحظة التي مرت فيها طلقة من الخلف فوق رأسه المنحنية لتستقر بعد ذلك في الزجاج الأمامي للسيارة. وكان المعنى لا لبس فيه : "كمين"، وكانت الخطوة التالية – حسب الخبرات السابقة- لا تراجع عنها: "الذبح".

تسلل الجندي المصري من باب السيارة الخلفي، يبحث عن مخبأ له بعيدا عن السيارة المستهدفة، فعاجلته طلقات للتهديد – ولم يكن اليمنيون ليقتلوا رجلاً من ظهره- عندما أمر الضابط سائقه أن يتحرك بالسيارة على الفور ويدع الجندي الذي تركها. ولم تكن الحركة في الظلام الدامس أكثر أماناً من السكون، غير أن العسكرية علمت أهلها أن الذهاب إلى الموت أفضل من انتظاره.

تحركت السيارة بهدوء، صوب هدف مجهول. كان الشيخ يفكر أنهم لو كانوا نهاراً، لأمكنه أن يظهر من السيارة بعمامته، وعندها ستصدر الأوامر لرجال المقاومة بالكف عن الضرب. ثم عاد وتذكر أنه الآن يلبس البدلة "الكاكي"، وليس الزى الأزهري، ولم يشعر بحاجته للزى وللشمس قدر شعوره في هذه اللحظات.

كما هو متوقع، خرجت السيارة عن الطريق، وانزلقت عجلاتها الأمامية، وسقطت فوق أحد المصاطب في الجبل محدثة دوياً هائلاً، ووقفت على "بوزها"، قبل أن يوقف الجندي محركها، ويشرعوا جميعاً في الترجل منها، قبل أن تفاجئهم بانقلاب آخر. خرج الشيخ سليماً، وكذلك الطبيب، وكانت إصابات كل من الجندي والضابط خطيرة. أمر الضابط الذكي بدفع السيارة حتى تهبط على المصاطب التالية، فدفعوها جميعاً فواصلت السقوط محدثة دوياً أشد من المرة الأولى.

ظل الطبيب الذي كان في السادسة والعشرين من عمره، يهذي بكلمات غير مفهومة، قبل أن يأمره الشيخ بالسكوت، ثم اتفق مع الضابط أن يحاول العودة إلى المعسكر – الذي كان يبعد حوالي كيلومتراً، لطلب المساعدة، بينما يبقى الطبيب معهم ليقوم بالإسعافات الأولية، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، هز الطبيب رأسه موافقاً، ولم يكن لديه خيار للرفض أو لسان للتعقيب.

بلطف الله وحده، كان طريق العودة إلى المعسكر مأموناً. ويبدو أن القوة المهاجمة اكتفت بسقوط السيارة، واعتبرت طاقمها في عداد الراحلين – خاصة مع الدوي الذي صاحب سقوطها-، ولم يكن اليمنيون المقاتلون ليسرفوا في تعقب المطاردين، أو أسرهم، كما هو الحال اليوم مع المقاومة في العراق، لأن مصير الأسير إلى الإطلاق، كما تقضي المروءة العربية: "فإما مناً بعد وإما فداء".

حين اقترب الشيخ عبد الغفار من المعسكر، وبدت له أنوار بواباته من بعيد، أسرع بالعدو. وحين تمكن حراس المعسكر من رؤية شبح قادم يجري مسرعاً، صاحوا فيه: من هناك؟ كلمة سر الليل؟ وقد شهروا في وجهه أسلحتهم. وهنا فقط أدرك الشيخ أنه هالك لا محالة، فقد كان لا يعرف كلمة السر، وكان الضابط الذي يعرفها هناك على المصطبة يعاني من آلام جروحه المبرحة.  

هداه الله تعالى إلى حل غريب، وساهم ذكاء الجنود المصريين وحسن بديهتهم في نجاحه. أسرع بخطوته نحو بوابة المعسكر، وقد وضع يده فوق رأسه مشبهاً شكل العمامة، ثم أخذ يصيح بصوته الجهوري "أنا مولاكم.. أنا مولاكم.. أنا مولاكم..". وكان الجنود والضباط الذين يعرفونه جميعاً ينادونه ب "مولانا".

عمل ذهن الحراس مسرعاً، وربطوا بين خروج الدورية وفيها: "مولانا" قبل قليل، وبين هذا الشبح المسرع، فكفوا عن إطلاق الرصاص، حتى وصل إليهم وهو في عدوه، والكلمة لا تبارح فمه، مر على البوابة الأولى، ولم يتوقف، وإنما واصل عدوه، وواصل صياحه، حتى وصل إلى البوابة الثانية، فلم يتوقف أيضاً، وإنما واصل عدوه وصياحه. الحراس يصرخون: كلمة سر الليل؟ وهو يصيح أنا مولاكم أنا مولاكم. 

حين توقف عند أقرب تجمع، اكتشف أنه أصيب بشظية في ساقه، من أحد رجال الحراسة الذي أطلق عليه النار بالفعل لإيقافه، لكنه لم يسمع بصوت الرصاصة، ولا أعاد الحارس إطلاق أخرى. استجمع أنفاسه، وقص القصة، ووصف الموقع، فخرجت قوة كبيرة، لنجدة المصابين، وعادوا بالأربعة جميعا.

في الصباح كان قائد الكتيبة قد اتخذ قراره، بتدمير القرية المجاورة، وعبثاً حاول الشيخ أن يثنيه عن عزمه، ويذكره بوعوده التي قطعها على نفسه مع شيوخ القرية بحمايتهم، ذكره بلطف الله بالدورية، وأن اليمنيين لو أرادوا بهم سوءاً حقيقياً لأبادوهم عن آخرهم لكنهم لم يفعلوا، ولكنهم أرادوا فقط إيقاف الدورية..  

كانت الأوامر العسكرية الغاشمة أقوى من كلماته ووعوده، وأغارت القوات المصرية  في منتصف النهار على القرية اليمنية الوديعة – وإن حمل كل رجالها وأطفالها السلاح – كانت المدافع تدمر البيوت على من فيها، والرشاشات تحصد كل من خرج أمام داره رجلاً أو طفلاً أو امرأة، وخرجت امرأة حامل مذعورة من بيتها فلحقتها دبابة فدهستها مع جنينها في مشهد يقطر وحشية، وهمجية، وكفراً.

فلما تناهى إليه ما حدث، وعاد المصريون بفعلتهم لا يدرون أيفرحون بالنصر الساحق، أم يخجلون من الهمجية المفرطة..  شرع يصرخ في قادته محتجاً، ويخلع رداءه العسكري في مكتب القائد، وينعى وعده الذي قطعه على نفسه وفشل في تحقيقه، وينادي بسقوط الظلم والاستبداد المصري.

صدر قرار ترحيله في دقائق، ونفذه مع أقرب طائرة شحن بضائع إلى مصر غير عابئ بما يئول إليه مصيره، ومصير ابنته سحر التي بالكاد أتمت عامها الثاني، وابنه وائل الذي ولد في سفره، وعاد إليه دون أن يتم شهره الثالث. ولم ينس – في لهفة العودة المتعجلة- أن يحمل لابنته هديتها الخاصة، وكانت قرداً صغيراً في حجم القط الكبير، أهداه إليه صباح يوم العودة فتى يمني تقطر عيناه نجابة وذكاء.