الوسوم

الشهادة النقدية الأزهى في تجربة أحمد بخيت الشعرية هي شهادة  الناقد الكبير صلاح فضل قبل عشر سنوات، حين كتب عنه في جريدة الأهرام متخلياً عن حذر النقاد وبخلهم الفطري: “أدخل رهانا نقديا على اسم شاعر شاب سيتألق بوهج مثير للدهشة في دنيا الإبداع، ليصبح شاعر مصر الأول. إنه أحمد بخيت.. الذي تخطى الثلاثين بقليل، وبهر كل من تعامل مع شعره، بقوته، وعرامته، وصدقه.. بنبضه الكلاسيكي الحي وقدرته على إعادة الشباب للقصيدة العربية… إنه وريث المتنبي، والأمل الموعود للشعر الحديث“.

ومع عظيم الامتنان والعرفان للناقد الكبير و كل النقاد العرب،  فإن أحمد بخيت يرى أن ناقديه الأساسيين هما الزمن والناس، أما ما يكتبه النقاد المتخصصون فهو مجرد انطباعات شخصية، لا تخلو من نزق ومزاجية ومجاملات مهما ارتدت ثوب العلم وحاولت الاتشاح بالنظريات. يستقبل رأي الناس تصفيقاً أو استهجاناً فور أدائه القصيدة، وينتظر الزمن ليقول كلمته الأخيرة فيما يستحق الخلود، وما يذبل عاماً بعد عام.

و بمزيج من الثقة في قدراته التي بناها بدأب ومعاناة صادقة، والتخوف من اتهامه بالغرور وهي تهمة جاهزة لكل المجاهرين برفض القبح وابتكار الجميل، يرى أحمد بخيت أنه لا يكتب قصيدة عمودية، ولا يكتب قصيدة التفعيلة، ولكنه يكتب ما أسماه القصيدة ال “نيو كلاسيك” التي وصفت بها أعمال أبي تمام قبل عدة قرون، حين قال عنه ابن العمودي “لو كان ما يكتبه أبو تمام شعراً، فكل ما كتب الشعراء من قبله باطل”. و أحمد لا يجد حرجاً في أن يعلن – عن علم ودراسة، ودون رغبة في الجدل والتحدي:  “إن قصيدتي أكثر اختلافا و تجاوزا من قصيدة أبي تمام”.

وبأسلوب النملة الصابرة الذي جربه محمد عبد الوهاب وأم كلثوم في العشرينات من القرن الماضي حمل أحمد بخيت سمرته وفصاحته ونبله على كاهل موهبته الجارفة وطاف جامعات مصر وقصورها الثقافية ومقاهيها العامة دون أن يحتضنه أحد، وبعدها توجه إلى طنجة وسرت ومسقط وميونخ وروما والرياض وصنعاء والأحساء والشارقة وأبو ظبي والكويت دون أن يسوق له ناقد أو صحفي أو ناشر أو مدير أعمال.

ولكن هذا لم يترك لديه غصة من أي نوع، بل كان يراه منطقياً واختباراً حقيقياً لصدق الموهبة وعمقها، فالمجتمع الثقافي العربي جبان، ويرى التجاهل والإنكار فضيلة أكثر أمناً من مخاطرة التبشير بصوت جديد فرصه في الاستمرار متأرجحة، فإن نجح فلا بأس بمديح متأخر فائق الإفراط في الكرم، وإن كانت الأخرى فقد “كفى الصمت غير المؤمنين شر المنافسة”.

والأمر عنده مبني على ثقة المبدع في ربه وإنتاجه: “علي كل مبدع حقيقي أن يسير ولا يلتفت، يكتب ولا ينتظر، يعمل ولا يأمل إلا في الله وفيما يكتب”.

…..

قبل عشر سنوات بالتمام والكامل، وحين فاز أحمد بخيت بجائزة الدولة التشجيعية في مصر عن ديوانه “ليلى شهد العزلة”، وكان قد تجاوز الثلاثين بسنوات، قال عن أعماله: “إنها مجرد تمارين شعرية وقد آن الآوان لنكتب شعرا حقيقيا‏.‏ وإذا اتسع العمر قليلا فسيكون هناك الكثير من الشعر الذي تنبغي كتابته‏.” وقد كتب بعدها مئات الأبيات، وشارك في عشرات الندوات، ونشر عدة دواوين، ومع ذلك فلا أعتقد أنه سيقول كلاماً مختلفاً اليوم، ولا بعد عشرين سنة.

وأحمد بخيت مثل كل المبدعين الحقيقيين ينظر إلى ملفات قصائده على حاسوبه الشخصي، ويخاطبها: “ألم يكن ممكناً أن تكوني أصدق؟”، – لا يستخدم مثلي كلمة أفضل- ، كما أنه يتابع تجارب الآخرين بعناية ودأب، ويقول: “أنا ابحث بهدوء وصبر عن قصيدة  لي في  الشعر، وإسرائي مستمر من الشعر العتيق إلى الشعر الأقصى دون تعصب أو تبعية غير مبصرة. وأحترم اجتهاد الآخرين وبحثهم عن قصيدتهم أينما شاءوا شريطة أن يقدموا إبداعا  جميلاً.”

ويرفض أحمد بخيت تصنيف شعره، فلا هو شعر عمودي، ولا هو شعر رومانسي، بل هو حسبما يراه: “شعر إنساني”، يسيح في واقع ويعبر عن حاضر –رغم كل شيء – “إنساني أيضاً”.

وهو لا يرفض تجارب الآخرين في قصيدة النثر أو غيرها، بل ويرى أنه ليس من حقه أن يرفض تجارب إبداعية جيدة في شكل ما لمجرد أنه لا يتبني أو لا يرتاح لهذا الشكل من الكتابة.

ويعترف أحمد بخيت بصخب موسيقاه الشعرية، ولكنه لا يعتذر عنها، و يقول: “الموسيقا سجن يحبس الناظم الرديء وحصان ينطلق بالمبدع الموهوب في فضاء رحب. وبالنسبة لي سأكتب في أي شكل عندما تحتاج تجربتي له‏.‏ الشعر الجيد ليس زهرة موسمية بل لؤلؤة حقيقية. وسيجد الشعر الجميل دائما من يقدره.”

…..

لا يخجل أحمد بخيت من بداياته الفقيرة، كما أنه لا يتاجر بها…

يقول عن أيام حياته الأولى في القاهرة، وكانت قاسية بعد أن أحضرهم الوالد إلى القاهرة باقة من البراعم الصغيرة، وتركهم مع أمهم في بيت بسيط بجوار شط النيل قبل حلوان، يبحث عن لقمة عيش شحيحة في ليبيا ثم في العراق ، يصارعون الغربة والوحشة والفقر   “لم يكن أمامي إلا الكتاب، وعندها فهمت معنى أن أكون صخرة نفسي، حيث لا مجال لرفاهية الفشل. فهمت أنه لكي تعيش بكرامتك بين أطفال – حقا – ولكنهم متوحشون – أيضاً- ، فعليك أن تكون متفوقا حتى الموت.  التفوق ينجح أحياناً في أن يلعب دور المال، ويكسبك الحب والاحترام “

…..

بعض أحمد بخيت منشور في الأبيات التالية… وبعضه الآخر في دواوين أخرى… ومعظمه لم يكتب بعد…

….

أتينا

من صعيدِ الشوقِ

أفئدةً جنوبيّةْ

نفتّشُ

تحتَ وجهِ الشمسِ

عن خبزٍ

وحرّيّةْ

وعن بيتٍ نربّي فيهِ

لهجتَنا الصعيديّة!!

….

(حَوَارِي) مِصْرَ

حانيةٌ على الفقراءِ

كالسكِّينْ

تدسُّ خشونةَ الأيامِ

في أبنائها الماشينْ

وتُشبِعُ جُوعَ تَوْرِيَتِي

وتدعوهم

حَوَاريِّينْ!!

….

أنا

هو ذلك الولدُ

المصابُ بكبرياء الرُّوحْ

كثيراً ما يُرى خَشِناً

وممتلئاً أسىً

وجموحْ

فإنْ أبحرتِ داخلَهُ

تَكَشَّفَ عن حنانِ

مَسيحْ!!

….

أنا

زهوُ الأبِ الحدّادِ

حُلْمُ شبابِهِ الناضرْ

على إيقاعِ ساعدِهِ الفَتِيِّ

ترنّمَ الطائرْ

أنا الحدَّادُ

يا لَيلَى

وزنْدُ أبي

هُوَ الشّاعِرْ!!

….

أنا

من هؤلاء الناسِ

أبناءِ الترابِ الحيّْ

وأبناءِ العذابِ الفرضِ

أبناءِ الأسى الجبريّْ

يَمُرُّ السهمُ

في دَمِهِمْ

فيرتدُّ النزيفُ إليّْ!!

أنا

قنّينةُ الفوضى

ولا ترتيبَ

للصعلوكْ

ولا أحدٌ سيجعلُني

أقدّم بيعةَ المملوكْ

حديثي

نصفُ سوقيٍّ

ولكنّ الجِراحَ

مُلوكْ

….

وكان أبي

يطاردُ خبزَنا

في بلدةٍ أخرى

يراني مرة

ويُحِبُّنِي

في لحظةٍ

عمرا

ويدرك أنني سهواً

أضفتُ لقامتي

شبرا!!

….

سلاماً

يا غيابَ أبي

ألم تشتَقْ

لتقبيلي؟

لقد خرَجَ الفتى الوهّاجُ

من برْدِ الكوافيلِ

وما عاد الصغيرُ يسيرُ

مبتلَّ السراويلِ!!

وُلدتُ

على سريرِ الحُبِّ

شأنَ أعزِّ مَن وُلِدُوا

وأُتقِنُ

لعبةَ الأشواقِ

أعرفُ

كيفَ أتَّقِدُ

وأعرفُ ما يُحِسُّ الناسُ

إن وُجِدُوا

ولم يَجِدُوا!!

….

وُلدتُ هناكَ

حيثُ النيلُ

والقرآنُ

والأجراسْ

ودفءُ البوحِ

بوح الدمعِ

دمع الصدقِ

صدق الناسْ

وكلُّ بكارةٍ في مصرَ

لا يبتاعُها النخّاسْ!!

….

هنالِكَ حيثُ يُفضي

العابرُ اليوميُّ

للمطلَقْ

ولا نحتاجُ للكلماتِ

والتنهيدِ

إذ نعشقْ

وحيثُ الجبهةُ السمراءُ

أفصحُ

عندما تعرَقْ

….

هنالِكَ

حيثُ تعلو الرُّوحُ

في زهوٍ على الأوجاعْ

وحيثُ فجاجةُ الأيامِ

سافرةٌ

بغيرِ قناعْ

وحيثُ تجابهُ الدنيا

بقلبٍ أعزلٍ

وذراعْ

….

هنالِكَ

حيثُ تشربُنا الحياةُ

فتنتشي

وندوخْ

وحيثُ طفولةُ الأحلامِ

تبلُغُ رشدَها

وتشيخْ

وحيثُ الناسُ

يا ليلايَ

ليسَتْ تدخُلُ التاريخْ

….

هنالِكَ

حيثُ يبدو العمْرُ

سعياً لاهثاً

وشتاتْ

وتبدو الذّات غائبةً

دفاعاً

عن وجودِ الذاتْ

هنالِكَ حيثُ عنفُ الموتِ

يجعلُنا

هُواةَ حياةْ!!

….

خُطايَ

تردُّني لخُطايَ

متجهاً

إلى (الكُتّابْ)

فأشرَبُ

صَوتَ سيّدِنا الأجشَّ

وسُورةَ الأحزابْ

وأحلامي التي تنمو

مهدَّدةً

بألفِ عقابْ!!

….

طريقي

رحلةُ الزرزورِ

يا ليلايَ للتغريدْ

ورحلةُ سيفِيَ الخشبيِّ

مِنْ طفلٍ

لجُرحِ شَهيدْ

ورحلةُ مُبحرٍ في الشكِّ

نحوَ

شواطئ التوحيدْ!!

….

ومازلنا… نواصل الإبحار في عالم أحمد بخيت الساحر…