الوسوم

من هنا نفهم. هذه قراءة خاصة في تاريخ المد الإسلامي الحديث ومستقبله مع التركيز على مصر، وفيها تلخيص لأكثر من ثلاثمائة مرجع ومصدر عن هذه الفترة التاريخية… كتبتها ليعود إليها الفتيان والفتيات ليتعرفوا بشكل مبسط ومكثف على تاريخ الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة على مدار قرن كامل، وفيها تحليلات ووقائع وشخصيات لم تأخذ حقها من النشر والرواج.

الأفغاني وتلاميذه

كان للشيخ جمال الدين الأفغاني (1838- 1897)، رغم لغط كثير حول دوافع نشاطاته، وتلميذه الشيخ محمد عبده (1849- 1905) دور في صياغة الحركة الوطنية المصرية ذات التوجه الإسلامي. وتوفي الأفغاني بعد أن نجح في غرس فكرة الإسلام المجاهد بين أتباعه. ووفق تعبير الأستاذ أحمد أمين: لقد جرب الأفغاني أن يبذر بذوراً في الأستانة وفارس، فلم تنبت ثم جربها في مصر فأنبتت.

وكان الأفغاني قد مكث في مصر لمدة 8 سنوات (1871- 1879) حتى تم نفيه بوشاية إنجليزية إلى الهند، وهناك تم اعتقاله في حيدر أباد. ويمكن القول بغير مبالغة أن صناع تاريخ مصر الحديث على اختلاف انتماءاتهم الفكرية هم تلاميذ الأفغاني.

تشمل القائمة – دون أن تقتصر على –: الأديب العسكري محمود سامي البارودي بميوله المحافظة، والزعيم أحمد عرابي بميوله الثورية، والمناضل عبد الله النديم بميوله الشعبية، ومصطفى كامل بميوله العثمانية، والشيخ محمد عبده زعيم تيار الإسلام الإصلاحي، وسعد زغلول الذي انتهت إليه الزعامة الوطنية العلمانية (رغم نشأته الأزهرية)، والمفكر أحمد لطفي السيد بعلمانيته المستفزة، وقاسم أمين بأفكاره المستعربة، وانضم إليهم إبراهيم الهلباوي، وإبراهيم اللقاني وجمع ممن يؤرخ بجهودهم في نشأة مصر الحديثة.

وكان من رأي الأفغاني أن تخلف المسلمين لا يعود إلى مرجعيتهم الدينية، وإنما هو نتيجة حتمية لغياب العدل والشورى وعدم تقيد الحكومة بالدستور. و تلخصت دعوته – التي بلغ عمرها 150 عاماً دون أن تتحقق على نحو مرض في دولة عربية واحدة – في أن يعاد للشعب حق ممارسة دوره السياسي والاجتماعي عبر المشاركة في الحكم من خلال الشورى والانتخابات. وبلغت جرأة الأفغاني في خطابه للخديوي إسماعيل، حين طالبه بأن يشرك معه الشعب في الحكم أن قال له: إن الحاكم تأتي به الأمة على شرط الأمانة والخضوع لقوانينها. وإن التاج سيبقى على رأسه ما دام يصون الدستور، أما إذا حنث بقسمه، وخان دستور الأمة، فإما أن يبقى رأسه بلا تاج، أو أن يبقى تاجه بلا رأس.

أما الإمام محمد عبده (1849 – 1905) فقد رأى أن جوهر المشكلة هو في عجز علماء المسلمين عن النظرة بإيجابية إلى العلاقة بين الإسلام والعصر. وقد بذل الإمام محمد عبده جهداً كبيراً في الجمع بين المبادئ الإسلامية وبعض الأفكار الغربية، فاتهم بأنه من أجل التوفيق أسقط بعض الثوابت. والحق أن الرجل لم يفعل أكثر من أن أعاد ترتيب الأولويات،وأحسن اكتشاف نقاط الالتقاء. كان يرى أن مصطلح المصلحة عند المسلمين يقابل المنفعة عند الغربيين، وأن الشورى تقابل الديمقراطية وأن رأي الجمهور يقابل رأي الأغلبية. و أكد الإمام بأنه لا يوجد حكم ديني (ثيوقراطية) في الإسلام، معتبرا أن مناصب الحاكم أو القاضي أو المفتي مناصب مدنية وليست دينية. ودعا في هذا المجال إلى إعادة إحياء الاجتهاد للتعامل مع  الأولويات والمسائل الطارئة والمستجدة على الفكر الإسلامي.

وقد بالغ الإمام محمد عبده في خطه التربوي الإصلاحي إلى حد أنه رفض الثورة العرابية، ورفض أي عسكرة لمطالب الإصلاح السياسي. وركز على تهيئة الأفراد، وأنكر كل مظاهر السلطة الدينية، معتبراً أنه “ليس لمسلم – مهما علا كعبه في الإسلام– على آخر – مهما انحطت منزلته فيه- إلا حق النصيحة والإرشاد.” وهي الجملة التي تتخذها جموع العلمانيين المعاصرين ذريعة للعبث بفهم آيات القرآن الكريم وتأويل الأحاديث النبوية الشريفة، دون أن يلقوا بالاً إلى آراء العلماء المتخصصين، والحجة أنه ليس لأحد على أحد حق ولا فضل.

ونقل عن الإمام أنه حذف بنفسه أحد أهداف مجلة المنار التي أنشأها تلميذه محمد رشيد رضا، وفيه: تعريف الأمة بحق الإمام، والإمام بحقوق الأمة. وكتب تعليقاً على هذا الحذف: “إن المسلمين ليس لهم إمام إلا القرآن. وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة، يخشى ضرره، ولا يرجى نفعه الآن.”

من ناحيته رأى محمد رشيد رضا (1856-1935) أن سبب تخلف الأمة يعود إلى أن المسلمين ابتعدوا عن الامتثال بتعاليم ربهم، وأن الحكام الفاسدين هم الذين شجعوهم على ذلك، وذلك حتى يتسنى لهم صرفهم عن المطالبة بالشورى التي هي أحد أهم مبادئ الإسلام بعد التوحيد.

وفي  مسار مواز وقع رشيد رضا رغم نشأته الصوفية وتأثره البالغ بكتابات الإمام الغزالي تحت تأثير الخطاب الديني الوهابي،  ومال إلى حصر مذهب السنة فيما جاء به الإمام أحمد، وبالغ في إعجابه بالإمام محمد بن عبد الوهاب حتى اعتبره “أفضل ـ أو يكاد يكون ـ من حافظ على المبادئ الجوهرية للسنة ودافع عنها بعد الخلفاء الأربعة الأولين .

******

(رحلتنا مستمرة……)